دور الحاضنة الإجتماعيّة في قيادة التغيير
بروفيسور علي عيسى عبد الرحمن
توارثت النخب الحاكمة في السودان منذ الاستقلال أخطاء تراكميّة أقعدت السودان وحرمته النهوض لأداء دوره الطليعي بين الأمم ، ليستمر السودان في التدهور ويصل في عهد (قحت) القاع وها هو المواطن يكافح من أجل رغيف الخبز وفي سبيل ذلك يجاهد ويضرب أكباد الإبل ويقيم الليل حتى مطلع الفجر ، واصبح من يحصل على حصة من الخبز كأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها . توارث السودان ومنذ الإستقلال نظاماً هو الأسوء في إدارة الدول ، فهو إمّا قائماً على ثنائية تجمع بين رجال الدين والأفنديّة التي تستند على حاضنة أدواتها التملق وإرضاء رجال الدين من الطائفيّة والحصول إما على البركة أو الحظوة ، وهو أكبر الهم ومبلغ العلم فهذا النوع من الحكم هو الحكم الطائفي الذي يكرس فيه الحاكم جهده لمصلحة طائفته ، ليصبح بذلك منفصلاً عن بقية المجتمع وهمومه ، فهكذا يدار السودان ، بعيداً عن المصالح الوطنيّة العليا ، فهذه هي حقيقة النخبة السياسيّة الحاكمة في بعدها الديمقراطي المفترى عليه ، أما الطريقة الثانية التي التي تدار بها دولة السودان فهي الطائفية العسكريّة والتي استندت على مرجعيّة ( حضانة ) القوّة المسلحة وفرضت دكتاتوريتها وحكمت السودان لأكثر من نصف قرن من الزمان ، فهي الأخرى كرست التخلف وعززت من انسداد الأفق في إدارة الدولة ، فهي نتاج طبقة من الجنرالات تحالفت مع بعض الوصوليين من العقائديين الذين لا يؤمنون بالطائفيّة السياسيّة فاختاروا الطائفيّة العسكريّة ونتيجة ذلك دخول السودان في دوامة من الصراع الذي لا ينتهي وقد يكون عنيفاً أحياناً يستخدم فيه القوة المفرطة لتحقيق الإنتصار . لابد للسودان من أن يخرج من هذه الدوّامة بطرح رؤى في إدارة أمر البلاد ترتكز على تغيير فلسفة الحكم في السودان وذلك باستبدال الحواضن التي تشكل مرجعيّة لهذا الحكم تاريخياً عبر التغيير الجذري المتدرج . لابدّ من تغيير مابالقوم وفق الشروط المطلوبة قال تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53
إن الذي يمكن أن يتغير بأي قوم جاء معبَّرًا عنه بكلمة عامة شاملة، وهي “ما”، أي: أي شيء بهؤلاء القوم، أي أنها تشمل كل ما يمكن أن يلمّ بهؤلاء القوم من أحوال سياسية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو مادية أو معنوية، أي كل ما يمكن أن يسعد ويسر هؤلاء القوم أو يسوءهم، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالنعمة وبالنقمة، وبالحسنة والسيئة .
انّ التغيير في الامة ، يخاطب الامة في قيمها ومبادئها ويعنى بالكليات التي تمثل هذه الامة بما في ذلك اعادة التوازن بين الدولة والشعب،فلابدّ من إعادة التوازن بين الدولة بمؤسساتها وضروراتها، والمجتمع بهياكله ومؤسساته وتطلعاته في التطوير والبناء. ولا ريب أن الخطوة الأولى في إطار إعادة التوازن بين الطرفين، هي إعادة الاعتبار إلى المؤسسات الأهلية (مؤسسات الأمة) وتنمية أدوارها ووظائفها، وخلق الأنشطة الأهلية والمدنية التي تساهم في تمدين الواقع الاجتماعي، وجعله مؤهلاً من الناحية النفسية والعقلية والواقعية لممارسة دوره والقيام بواجباته الكبرى في الوجود. لذلك يبدو أن المدخل الفعال لمناقشة هذه المسائل، هو جدليات الأمة والدولة في التجربة الاسلامية التاريخية ، فالتغيير يجب أن تقوده الأمّة أي الشعوب .
لابد من تدخل الشعب لكبح جماح الدولة( الحكزمة ) لتحقيق التغيير المنشود لذلك فإن حضور المجتمع وحيويته ، واستمرار تطور قواه الذاتية، هو الضمان الوحيد لعدم تغول الدولة ( الحكومة ) وتحولها إلى كيان يختزل إمكانات المجتمع في مؤسساته وأطره، ويحركها وفق المصالحه الضيقة. إننا مع الدولة القوية القادرة للدفاع عن سيادة الشعب وعزته واستقلاله، ولكن قوة الدولة الحقيقية لا تتأتى إلا من خلال ممارسة المجتمع بمؤسساته ومنابره الأهلية والمدنية لدوره وحريته.
حيوية الأمة وقوتها، هي طريق صناعة الدولة القوية، وأي طريق يتجه إلى صناعة قوة الدولة بعيداً عن هذا الخيار، فإنه يؤدي بنا إلى الدخول في نفق مظلم من العلاقة المتوترة وذات الطابع الصراعي بين الدولة والشعب. وهذا النفق المظلم، هو الذي يعطل النهوض ، ان واجب الشعب يقضي بمحاصرة انحراف الدولة ، والعمل بكل الوسائل المتاحة والمشروعة لضبط مؤسسات الدولة، وإخضاع خياراتها وسياساتها الداخلية والخارجية للضوابط .
ابداعات المسلمين ، يرجع الفضل فيها إلى الأمة ومؤسساتها. أما الدولة (وبالذات بعد التجربة الراشدية في الحكم) فقد كانت على العكس من ذلك تماماً، حيث أنها حاربت إبداعات الأمة، وحالت دون ممارسة حريتها في الدعوة وإيصال صوت الاسلام ، وضربت بيد من حديد كل صاحب مشروع علمي أو ثقافي أو اقتصادي خارج عن نطاق
الدولة وبعيداً عن سياساتها وجبروتها. لهذا يزخر تاريخنا الاسلامي بالانتفاضات والثورات التي قامت بها نخب الأمة وطليعتها ضد الطغيان والاستبداد الذي تمارسه الدولة وأجهزتها المختلفة.
وذروة الحضارة في المجال الاسلامي، تبدأ حينما تتطابق إرادة الدولة وإرادة الأمة. والتطابق هنا يعني أن لا تمارس الدولة بأجهزتها أي إقصاء ونفي وتهميش لإرادة الأمة، وأن يكون لها دورها الحضاري في مجال سيادة قيم الدين في الواقع .
وليس من المبالغة في شيء القول: بأن غياب هذا التطابق الحضاري في الدور والإرادة بين الأمة والدولة، هو الذي فتح الباب على مصراعيه للمشاكل والأزمات والإخفاقات التي يعاني منها واقعنا
أنّ التغيير المنشود يعتمد على دعامات تتمثل في التوحيد والدعوة والشعب ، «التوحيد» هو قمَّة المقاصد الشرعيَّة التي جاء القرآن المجيد بها، والقاعدة التي يقوم عليها ويتفيّأ ظلالها وينتشر بها ولها هي «الشعب» ، والوسيلة التي يستخدمها وينطلق بها هي «الدعوة». هذا الإطار يكاد يكون الإطار الوحيد الذي يمكن أن يشيع المسؤوليَّة بين سائر المكوّن السوداني ، وهو ماكان عليه الأنموذج الإسلامي ، الذي تمثّله الأمَّة المستظلة بـ«ـالملّة» ملّة أبيكم إبراهيم. بيد أنَّ الانحراف قد حدث مما أدى إلى اختزال ذلك كله «التوحيد والأمَّة والدعوة» في دولة وبرنامج سياسي وحكومة انحصر التنافس عليها بين مجموعة أسر في القديم والحديث، هي أسرة «الأمويّين» و«العبَّاسيّين» و«العلويّين» أو «الطالبيّين»، ثم تأرجح الأمر بين مجموعة من القوميّات والأحزاب لتكون شركة أو دولة بين «العثمانيَّة» و«العلويَّة» و«العباسيّة» وما آلت إليه من «شعوبيَّة» أو «فارسيَّة» أو «عروبيَّة». وقد تراجع مفهوم «الأمَّة والملة» أمام تلك المفاهيم الناشئة التي استمرت لتتحول إلى نوع من قوميَّات، فيكون «الديلم» و«السلاجقة» و«البويهيين» ثم «العثمانيّين» و«الصفويّين»، كل ذلك على حساب تقزيم مفهوم «الأمَّة والملة») .