العلم لا يتحرّك، البُحوث هي من تفعل!

0 99

الكاتب/ عماد الدين زناف

العالم لا يَقول وجدتُ، بل يقولُ وجدنا، ولا يقولُ سأبحثُ، بل يقولُ سنبحث، فالعالم لا يتحدّث عن أمرٍ يخصّه، بل عن شيء يخصّ الإجماع العلمي. القضيّة ليست في الخطأ العلمي، بل في التعامل مع الأبحاث العلمية بطريقة غير موضوعيّة. العلماء لا يبحثون عن العلم، بل يبحثون في العلم، لذا علينا أن نعلم بأن العلوم غير مكتملة في ذاتها، بل هي تشبه القارورة التي تمتلئ شيئا فشيء بالأبحاث العلمية، والأبحاث العلمية قبل أن توضع في القارورة تخضع للتقطير والتصفية عن طريق المخابر، وقبل ذلك، عليها أن تكون أبحاثاً علمية بالأساس، وليس عبارة عن مقالات رأي. فالباحث عليه أن يدرسَ أسس البحث العلمي والمنهجية في الطرح العلمي، قبل العرض. النقد في العلم هو أكثر شيء تعرّض للابتذال، قد يكون أحد أسباب هذا الابتذال هو شدّة التقارب بين العلم والعلماء مع المجتمعات، عكس ما كان عليه في السابق. ذلكَ أننا نجد أن عامّة الناس، أي غير المختصين ينتقدون الأبحاث العلمية بالميول العاطفي والحدس والرّغبة والانحياز المعرفي، وليس نقدا مبنيا على أبحاث علميّة أخرى تناقض الأبحاث الأولى. والمشكلة هُنا ستنتقل من الأبحاث العلمية إلى أشياء أكثر تعقيداً، مثل تسييس العلم وأدلجته، واخضاعهِ للرقابة والتأطير الذي يُقيّد حرّيته، بحيث أن الأبحاث مثل الرضيع، تحتاج لمساحة كافية للتجربة وكسب الخبرة. العلماء يبحثون، لأنهم يعلمون بأنهم لا يعلمون، فهم يؤكدون مقولة سقراط حرفيا، فالجهل غيرُ منسوبٍ للذي لا يعلم، الجهلُ صفة العالم! لأن الذي يعلم أنه لا يعلم، يعلم أنه يجهل، بينما الذي لا يعلمُ أنه لا يعلم، فهو بذلك لا يعلم أنه جاهل، فهو لم يصل لدرجة الجهل المَعلوم! إذا هو لا يخضع لأي مصطلح بعد! هو شيءٌ من الفوضى chaos قبل تكوين شيء ما. العالم المُعاصر لم يعد يعرف معنى الخُلوة العلمية، حيثُ أصبحَ الإعلام يعاملهُ والباحث والفيلسوف على أنهم شخصيات مؤثرة، مدربين للشباب الطموح، شخصيات تُخاطب الناس عن تجاربها الاجتماعية أكثر منها العلمية، والأمر منطقي إلى حدّ بعيد، ذلك أن التخصصات تبقى حبيسة المتخصصين دائما، حتى إذا وصل العالم للحديث عن علمه توقّف وتحدّث عن شيء آخر، وإن انتقت بعض العلوم إلى الشعوب عبر التعميم العلمي، فهي لن تعوّض التعليـم العلمي المنهجي الأصيل. ذلك أن التعميم هو مُحاولة اغواء واستدراج الشعوبِ والشباب خاصةً للعلم، ودراسته والتعمق فيه، وليست هي العلم في ذاته. نَجدُ أن هناك رغبة إعلامية وشعبية في جعل بعض العلماء والباحثين عبارة عن قامة عظيمة، ذلك أنهم اجتهدوا في مواضيعَ علمية شاركهم فيها الكثيرون. غيرَ أن التاريخ يؤكّد أن ما يجعل العالم والباحث والمفكر والفيلسوف والفقيه قامةً ورمزية في عصره هو الوقت والزمن. فالزمن وحده كفيل بوضع الناس في مواضعهم التي يستحقون، أما ما يختاره الناس فليسَ بالعظيم بعد، ذلكَ أن اختيارات الشعوب غير المتخصّصة تخضع دائما للعاطفة أولا، وثانيا هي لا تُدرك أحقيّة ما عُرضَ عليها، فالباحث والمنقّب هو الوحيد القادر على تقييم الأشياء، غيرَ أن تقييم الأشياء إذا جاء عكس طموح الشعوب، فسوف يخضع للجلد الشعبوي، وكل هذا لا يمثل العلم والعلماء في شيء. رغبة الشعوب تتلخّص في صناعة تمثال لأمّتهم ومُمثّل لها، وان كانَ قدَرُهُ كذلك، فسيكون بعد أن تتراكم عليه التجارب ويتراكم فوقه المفكرون والفلاسفة والفقهاء، ويبقى مع ذلك شامخاً بأبحاثه وأفكاره بعد مائة ومائتي سنة!السؤال هو، كيف يكمن للشعوب أن تُقيّم الأبحاث؟ وهي غير متخصّصة في العلوم عينها، ولا تستطيع أن تُثبت أو تنفي شيئا منها! الإجابة باختصار أنها لا يُمكن أن تُقيّم الأبحاث ما دامت لا تستطيع أن تعيَ التفاصيل ولا تستطيع التجريب والبحث، فما الذي علينا أن نستنتجه من كل هذا؟ الاستنتاج سيكون كالتالي: لا يجب أن تخضع الأبحاث العلمية لآراء الشعوب إطلاقاً، ما يُمكن فعله هو عرضُ النتائج التي تساهم في تطوير الحياة اليومية للمستهلكين فقط، أما التقييمات للأشخاص، فهو تقييم عبثي، ولا أقول إنه عبثي بشكل يعود بالسلب على العالم والباحث والمفكر عينه، بل لأن التقييم الشعبوي غير خاضع للامتحان العلمي، بل خاص للرغبة العاطفية في صناعة التماثيل.

المقال 288

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!